في البستان.. شوك قبيح

أعتقد أننا جميعا رددنا في طفولتنا التعليمية هذا المقطع الإنشادي:
في البستان.. زهر جميل.. عليه فراش.. يرقص ويطير.

و لا أدري إن كان الذين سهروا على إعداد هذه المقررات لنا جادين أم أنهم كانوا من المازحين. والسبب أننا بمجرد ما كنا نخرج من المدرسة لم نكن نجد لا البستان ولا الزهر ولا الفراش. بل كنا نجد أنفسنا في باحة استراحة بأرضية إسمنتية خشنة تصر على إرسالنا إلى بيوتنا بركبة ومرفق مزينين باللون الأحمر. ف"الدواء الأحمر" أي "الميكروكروم" كما تعلمون كان هو كل رأسمال صيدلية المدرسة، وكان فيه علاج لكل الأمراض، مثل الحبة السوداء تقريبا.

وبعد أن نخرج من المدرسة نجد أناسا يبيعون لنا مجموعات خاصة من الميكروبات والفيروسات، المفروض أن اسمها كان هو "كالنطي" و"الشامية".( أكلات شعبية من مدينة طنجة).

تقرأ عن كمال الولد المجتهد النظيف الذي يحبه أستاذه لأنه مجد وخلص والذي ينبغي أن تكون مثله، بينما ينهال القدح على أحمد الولد البشع الذي لا يمشط شعره وينقل من زملائه ويلطخ دفاترهم بالمداد ظلما وعدوانا.

طبعا - والعهدة على كتاب "قراءتي" - يصبح كمال دكتورا مبتسما دائما، يضع كفيه في جيبي معطفه ويبادله الجميع حبا بحب، ولا يمنعه من البكاء تأثرا لهذا سوى أنه دكتور. والدكاترة لا يبكون.

أما أحمد فينبذه المجتمع ويكرهه ويصبح متسولا منبوذا ولا قيمة له في المجتمع.

بعد أن تمر السنون والأعوام تتضح لك الحقيقة بجلاء وتعرف أنهم سخروا منك بشدة وأن الذي تقلد أهم المناصب بالمدينة هو أحمد الذي كان ينقل من دفترك، بينما بقيت أنت تحاول ما أمكن أن تمنع جدار بيتكم من السقوط بوقوفك اليومي متكئا عليه.

فلماذا درسونا السوريالية ونحن غير قادرين على فهمها؟

لقد اختاروا أن يدرسونا أصعب مدارس الفن التي لا يفهمها إلا جهابذة التحليل والنقد. بينما كان أولى بهم أن يعتمدوا المدرسة الواقعية التي تقول لك :

في باب المدرسة.. شوك قبيح.. عليه حلزون.. لا يصلح للأكل.

وهذا فعلا ما كنا نجده أمامنا بعد أن وصلنا المرحلة الإعدادية بسلام. ولا أعرف من العبقري الذي خطط لتكون مدرستنا، الخاصة بالبسطاء، قرب مجموعة من الفيلات. لهذا كتب الله لنا أخيرا أن نرى البستان الذي عليه الزهر، لكننا رغم ذلك لم نبال به لأنه كان يطل علينا فقط من خلف الأسوار، وكان كل همنا هو أن نسرق فاكهة "المزاح"، أو أن نصطاد طائر "البرطال" الذي كان يزقزق بكل سعادة في حدائق تلك الفيلات الخاصة.

عندما كانوا يطاردوننا، نتجه إلى غرسة "الزيلاشي" أو مقابر المجاهدين لنأكل نبتتي "العشلوش" و"الحميطة" ونتلذذ بمذاقهما اللاذع.. نوع من التضامن مع البقر الذي كان يشعر بالملل قرب الموتى.

بعد أن نكمل الوجبة، يبدأ الهجوم البري على الحلزون، منا من يبيعه ومنا من يأكله ومنا من يمسك بالقوقعة قرب فمه مرددا :

غولالة.. غولالة.. خارجلي قريناتك أولا ندبحلك وليداتك.( أيتها الحلزونة... أخرجي قرنيك.. أو سأقوم بذبح أولادك)

وعندما ييأس من أن تسمعه الغولالة يمارس ساديته ويكسر قوقعتها، فقط ليكتشف أن غولالة المسكينة لا تمتلك أولادا، وأن أقصى ماكانت تطلبه هو أن يتركها المخربون مثلنا في سلام.

لكن صديقها الزنبور شاهد ما يحدث، وهو لن يترك الأمر يمر بسلام. لذا كنا نجد أنفسنا أكثر من مرة أمام خلية كاملة من الزنابير وقد قررت أن تطاردنا دون سابق إنذار، لهذا يكون أمامنا آخر حل وآخر نشاط لإنهاء اليوم: العدو السريع.

هذه، إذن، هي البساتين التي زرناها.. وهذه هي الفراشات التي رأيناها ترقص.. وهذا هو الزهر الجميل الذي شممناه.

فلماذا لم يخبرنا بذلك أحد من قبل؟!!

تعليقات

  1. أتذكر حينما كانت تنتهي أيام الدراسة أو تشرف على الانتهاء، أنني كنت أقوم مغامرات نحو بوقنادل سابقا. هناك كنت تجد الماء والخضرة، ومنازل مشرفة على البحر تذكر بقصص الشاطر حسن.

    ردحذف
  2. آه يا أخي ستيتو, لقد أعادتني اسطرك لسنين غالية،عزيزة وسعيدة بكل مافيها، بشوكها، بزهرها وبراءتها...
    ومهما تظهر الأيام من علامات النجاح على أحمد، فسيظل أحمد هو أحمد وكمال هو كمال (مثال النجاح), وتجاهل الحقائق لن يغيرها.
    وبما أن الحكمة تقيس غنى الإنسان بقدر الأشياء التي يستطيع أن يتنازل عنها دون عناء, سأظل أعشق نشيد الطفولة : في البستان.. زهر جميل.. عليه فراش.. يرقص ويطير.لأنه أحد الأشياء التي جعلتنا اليوم أغنياء.
    أشكرك كثيراً على المقال.
    وفقك الله
    تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كل الطرق تؤدي إلى... طنجة

مع مجموعة من الأصدقاء في مدينة حماة السورية

الطاكسي كحال