أقـــــــدار - قصة قصيرة

مدينة طنجة، الساعة الثانية زوالا – يوليو 2005:

لم يكن هناك سوى التعب و بعض ألم في الجانب الأيسر من ظهره. لم تفلح محاولات زوجته اليائسة في إنهائها بالتدليك منذ شهور. يدها حانية لكنها لم تغير شيئا. العرق يجعله يكره كل شيء في هذا العالم بما في ذلك تلك المحفظة الثقيلة التي بدأ مؤخرا يعلقها في كتفه الأيمن تجنبا لازدياد الألم. هذه هي المرة الألف بعد المليون التي يفكر فيها برمي كل ماحوته من رسائل في أقرب بالوعة، لكنه يستفيق من أحلام يقظته و هو يرمي مظروفا جديدا تحت باب حديدي آخر.
- عبد الحميد العيساوي، حي السعادة – زنقة 10 – طنجة.

قرأ العنوان و قلب المظروف في يديه في تعاسة و رفع رأسه كي يتأكد من الرقم مجددا ثم رماه في تلك الفتحة الصغيرة السفلى وواصل عمله. فقط كانت هناك فكرة صغيرة تدور في رأسه مرة أخرى: ماذا لو رمى كل هذه الأثقال في أقرب بالوعة؟
******
مدينة طنجة، الساعة الثالثة والنصف عصرا من نفس اليوم :

هناك أطفال وأطفال..هناك أطفال أشقياء .. وهناك أطفال مزعجون .. وهناك أطفال كسالى.. و هناك ( مراد)، الطفل الذو السنوات الثمانية..و هو الجهبذ الوحيد الذي استطاع أن يجمع كل هذه المواهب بل أكثر. نصف أهل الحي كان يتمنى أن يضعه في منطاد و يجلس ليستمتع بمشهده و هو يحلق عاليا إلى غير رجعة. والنصف الآخر – الأكثر رحمة – كان يتمنى أنه لم يوجد، و كفى الله السكان شر بغضه. لكنهم – مجبرين - كانوا يمسحون على رأسه و يبتسمون لوالدته (الياقوت) دلالة على أن هذا الطفل رائع حقا. هذا الشبل من تلك اللبؤة. الياقوت قادرة بصراحة على أن تدمر بلدا بكامله إن استعملت ربع قاموسها من الشتائم، لذا آثر سكان الحي السلامة و اكتفوا بالدعاء على الاثنين: على الولد بالرحلة الفضائية و على الأم بالخرس النهائي.

كان طرف المظروف البارز من تحت الباب مغريا إلى أقصى حد. بطرف عينيه لمحه مراد. الإغراء كان قويا، و الفكرة لا تقاوم. للتسلية وجوه عديدة، أروعها على الإطلاق أخذ أشياء الكبار بكل غموضها وإغرائها.كان على باقي أفراد العصابة الصغيرة أن يشاركا في العملية: سعيد و معاذ. و كان عليهما أن يوافقا بعد استشارة صغيرة تضمنت لكمة في الأنف لسعيد و نظرة قاتلة لمعاذ. في الواقع، مراد طفل يعرف كيف يدير الأمور على درجة عالية من الحرفية.سعيد يراقب في رأس الدرب. معاذ يرافق مراد كحارس شخصي. و مراد – البطل – يأخذ المظروف ويطلق ساقيه للريح.

******

الأستاذ المحترم عبد الحميد العيساوي، يشرفنا أن نبلغكم بقبولكم في منصب أستاذ لغة العربية بمدرسة (...). و نظرا لتغيير هيكلي في المؤسسة تعذر علينا العثور على رقم هاتفكم. لذا يتعين على سيادتكم الحضور يوم الاثنين 1 غشت على الساعة الثامنة لإكمال باقي الإجراءات الإدارية المتعلقة بتوظيفكم.في حالة مرور خمسة عشر يوما على التاريخ المدون أعلاه، سيتم اعتبار غيابكم رفضا من طرفكم للمنصب وسنكون مضطرين لتعيين مرشح آخر في لائحة الانتظار.تفضلوا بقبول تقديرنا و احترامنا في انتظار حضوركم أو ردكم.

نيابة التعليم بمدينة طنجة

- هل فهم أحدكم شيئا؟نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض في بلاهة، لكن مراد تدارك الموقف وواصل لعبته الأثيرة:

- إنها رسالة من محبوبته بالتأكيد. تقول لي أمي دائما أن ذلك الرجل شرير و يحب أن يلهو ببنات الناس. أنظروا هنا جيدا إلى هذه الكلمة: ا..ح..ت..ر..ا..م..ن..ا. ألا يوحي لكم ذلك بشيء؟ طبعا لا. أنتما مجرد غبيان. حري بكما أن تجلسا في المنزل لمشاهدة بوكيمون كالأطفال.

نظرا إليه في وجل مشوب باحترام لطفل يفكر بعقل الكبار. إنه مرعب لكنه مسل و هما لا يستطيعان أن يأكلا التفاح والإجاص من حديقة السي عبد السلام بدونه.أخرج من جيبه علبة كبريت و التمعت عيناه في شيطنة. هووووف..في ثوان أصبحت الورقة هشيما تذروه الرياح.

- ستهجره حبيبته لأنه لم يرد على رسالتها.. هاها.. لن يضحك على بنات الناس بعد الآن. لا أدري أبدا لماذا يقولون أننا أشقياء. ألا يكفي كل هذا الخير الذي نفعله؟ هؤلاء الكبار مجرد مجانين والله.

******

مدينة طنجة، الساعة الخامسة زوالا – سبتمبر 2005 :

- سأعطيك ثلاثين ألف درهم شريطة أن تضمن لي وصولي بسلام إلى طريفة.

- طبعا يا السي عبد الحميد، أنت أستاذنا، و حاشا لله أن أورطك أو أوقعك في ما لا يحمد عقباه. لو لم أكن أثق في هذا المهــــرّب لما أطلعتك على الأمر.

- لا أستاذ و لا غيره. ست سنوات و أنا لا أكف عن اجتياز المباريات وطرق أبواب الشركات دون جدوى. يبدو أن جسدي هو من ستكون له الكلمة الأخيرة في حقول إسبانيا، هذا إن كتب لذلك القارب الرديء أن يوصلنا إلى ضفة الأحلام الأخرى.

- لا أحد يعلم أين يوجد رزقه.

تعليقات

  1. j ai bien aimé cette histoire très bon style ^^

    ردحذف
  2. في الحقيقة قصة محزنة جدا، و هي إن دلت على شيء فإنما تدل على واقعنا المرير الذي نعيشه،حقا عجيبة هذه الدنيا فكيف يمكن لإنسان أن يصبح مصيره معلق بين يدي أطفال أشقياء.. أم هو القدر الذي يتلاعب بأرزاقنا, فإما أن نسعد أو نشقى، كل و رزقه، سواء أكان هناك طفل شقي في الحي أم لا فإن الرسالة لم تكن لتصله أو ربما حتى وإن توصل بها فسيحدث أمر بل أمور تبعده عن تلك الوظيفة لأنها في الأساس لم تكن له، لكن الشيء المحزن حقا هي النهاية التي اختارها لنفسه إنها بمثابة الانتحار أو الهروب من القدر وعدم الرضى بما كتبه الله تعالى علينا..
    شكرا لك سيدي، حقا تمتعنا بكتاباتك، أتمنى لك التوفيق.. واصـــل !!!

    ردحذف
  3. l3ezzzz akhoti brabo lilkom

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كل الطرق تؤدي إلى... طنجة

مع مجموعة من الأصدقاء في مدينة حماة السورية

الطاكسي كحال