القاهرة.. من جديد!!

القاهرة مرة أخرى. في كل مرة أزروها، تزداد هذه المدينة قسوة مثل عجوز بلغت من الكبر عتيا، فقررت أن تكون السماجة هي آخر ما يتذكرها الآخرون به.
في السادسة صباحا، تبدو شوارعها خالية تماما و يمكن أن تتلمس بعض رحمة وحنان الأيام الخوالي. سائق شركة الاستقبال الذي أوصلنا من المطار إلى الفندق، وقف بعيدا في إشارة لطيفة ومفهومة. نتبادل النظرات أنا و عبد العزيز. أقول له أنني لم أحول اليورو البائس الذي في جيبي إلى جنيهات بعد. هو أيضا لم يفعل. سألت السائق بصفاقة إن كان يأخذ أجره من عمله فأجابني أن نعم . " بس، كادو من سعادتك" أضاف.
كدت أصرح له بأمرّ الحقائق على الإطلاق و أقول له أنني أحوج منه إلى " الكادو"،لكنني فكرت أنه ليس شأنه على أية حال. تركت عبد العزيز يحل المشكل و سحبت حقيبتي خلفي. فنادق الخمس نجوم نعمة تحمل في طياتها نقمة. فكل العاملين يفترضون أنك مترف، مادمت قد قررت أن تكون إقامتك هناك. الحل الوحيد أن تدخل بسروال مرقع و جيوب متهدلة، علهم يقتنعون أنك معدم كصخرة. طبعا، يبقى احتمال أن يعتقدوا أن الأمر موضة جديدة و يزيد هذا من احتمالية ثرائك الفاحش جدا. المترفون هم وحدهم من يملكون الوقت ليحولوا هندامهم إلى لوحات تشكيلية.
برودة الجو في القاهرة فاجأتني. لأول مرة أعرف أن القاهرة أيضا يمكن أن تكون باردة. برودة الجو أقصد. عندما بدأت الورشات نسيت كل شيء وانغمست فيها حتى النخاع. أسماء فتاة عملية جدا، و قد راقني هذا. في عالمنا العربي، لاتجد أمامك سوى أناس يخبرونك أن الموعد في الثامنة، فقط كي يضمنوا مجيئك، ثم يحضرون هم في العاشرة. هذا موقف تكرر معي مئات المرات. لكن أسماء خيبت ظني و فاجأتني بنشاطها و دقة مواعيدها. إشعاعها المغناطيسي أثر في الجميع، فكانت نقاشات الورشة حامية الوطيس و أنستنا برودة الجو بالخارج.
يتحدث الأستاذ اللباد فننصت جميعا. ببطء يتحدث، بثقة و تواضع كبيرين. أمام هذا الرجل أفضل شيء تفعله هو أن تصمت. الراشدي قال لي أن اللباد لا يمكن أن يكون إلى أبا، أبا للجميع. أومأت برأسي دلالة على الموافقة. عندما يهدأ النقاش و تبدأ فكرة النوم في الإلحاح على الجفون، نبدأ تسليتنا أنا و عبد العزيز بالتراسل من خلال الورقة الموضوعة بيننا. تيمة هذه الورشة كانت هي:" كيف تفعل كذا و كذا".
تتثاقل جفوني فأكتب لعبد العزيز :
- كيف تتغلب على النوم في خمس دقائق دون معلم؟
يجيب:
- بأن تبعد قدمك التي تدوس بها على حذائي في ثلاث ثوان.
هيستيريا الضحك تهاجمنا فلا نتوقف إلا و قد استعدنا نشاطنا التام. بعدها تكون تدخلاتنا موفقة. لم يجانب الحقيقة من قال إن الضحك يساعد على الفهم بعشرة أضعاف أو أكثر.
لاتجد صعوبة في التعامل مع الجميع. الكل بسيط هنا. أشرف كان من أوائل الذين استلطفتهم. هو أيضا هادئ وخجول. خجله من النوع المحبب. لايمنعه من الحديث والتواصل ولاحتى عرض مشروعه الأدبي بقوة وثقة.
القاهرة ليلا عروس حقيقية. لا تتوقف الحركة و لا قوافل السيارات والبشر إلى فجرا، كي تبدأ بعدها حركة أخرى أكثر صخبا و توترا طبعا.
ضغطت على عبد العزيز حتى اشترى رواية شيكاغو لعلاء الأسواني. لا أدري بالضبط لما انتابنتني تلك الرغبة الخبيثة في إغرائه بشرائها. ربما لأنني أريد أن أستعيرها منه فيما بعد. أنا اشتريت كتاب " الوليد" الذي يحكي عن قصة الأمير الوليد بن طلال. قرأت ربعه في السماء والربع الثاني في الحافلة من الدار البيضاء إلى طنجة في طريق العودة.
دائما ينظر إلي الآخرون باستغراب عندما أشتري كتبا لاعلاقة لها بالأدب. فكرتي عن الأدب هو ذاك الذي أقدمه أنا. رؤيتي للحياة و الآخرين. لست مرغما على شراء كتب النقد و الفلسفة، والحديث عن الإبستمولوجيا و الديداكتيكية لأكون مثقفا. أغلب من أخالطهم أناس عاديون. لو كلمتهم بأي مصطلح غريب فسيصابون بالتقزز. أكتب ببساطة، و عش ببساطة أكثر. القراء يبحثون عن إنسان يكتب. و ليس عن كاتب يتحذلق. هو رأيي البسيط جدا على أية حال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كل الطرق تؤدي إلى... طنجة

مع مجموعة من الأصدقاء في مدينة حماة السورية

الطاكسي كحال